النشأة وتكوينها الإجتماعي

 
إن نشأة برج حمود وتكوينها الاجتماعي مر بثلاث مراحل رئيسية:
 
 - المرحلة الأولى : قدوم الموارنة
- المرحلة الثانية : قدوم الأرمن
- المرحلة الثالثة : قدوم الشيعة
 
 المرحلة الاولى : قدوم الموارنة
 
سكن الإنسان هذه المنطقة منذ القدم كونها تشكل جزءا هاما من الشاطئ اللبناني.
وإثر الفتح العثماني في العام 1516  وقعت هذه المنطقة الساحلية تحت سلطة الأمراء  العسافيين ومنذ العام 1545 في عهدالأمير منصور العسافي  بدأت تشهد إقبالاسكنيا ومع أن منطقة بر ج حمود منطقة كثيفة الاشجار والمستنقعات،  فقد أم اليها الموارنة منذ بداية القرن السابع عشر. بنوا كنيسة على إسم القديس ضومط في منتصف القرن عينه ، ومع ازدياد السكان وموقع برج حمود الاستراتيجي على مدخل بيروت الشمالي، الباب بين ولاية بيروت ومتصرفية جبل لبنان ، أعيد تجديد بناء كنيسة مار ضوميط بدلا من الكنيسة القديمة وجرى بناء كنيسة ثانية في حارة صادر باسم القديس يوسف في نهاية القرن الثامن عشر ، وقد تم ايضا بناء مدرستين بالقرب من الكنيستين لكلتا الرعيتين. 
في تلك الحقبة كــانت برج حمود، التي تقع ضمن قطاعــات آل ابي اللمع، منطقة زراعية يغطي القسم الأكبر منها غابات  ومستنقعات وأحراج من أشجار  الصنوبر والزنزلخت والكينا والخروع  والعفص والشوك. أما المياه فكان الاهالي يحصلون عليها من النواعير الكثيرة  الموجودة في البساتين الواسعة. وكان  من السهل استخراج تلك المياه   بمجرد الحفر  على عمق حوالي 60 سنتم  فقط. وكان السواد الاعظم من الاهالي يتعاطون الزراعة والحراثة  نظرا لوجود البساتين  والاراضي الخصبة والمياه المتوفرة.
 أما أهم المزروعات فكانت التوت والخضار والفاكهة وكانت  المحاصيل تنقل بالطنابر ليلا وتباع يوميا في الحسبة ( سوق الخضار ) في بيروت  وبقي قسم من أهالي المنطقة وسكانها والمالكين منهم يزرعون التوت لتربية دودة القّز وانتاج الشرانق وحل الفيالج في المصانع المتخصصة التي كانت  تعرف بإسم "كرخانة الحرير ".
معروف ان هذا القطاع يشمل الزراعة والصناعة والتجارة وتشغيل اليد العاملة. 
ان قصة لبنان عامة، وبرج حمود خاصة، مع الحرير قديمة، قدم " طريق الحرير" الذي يربط بين الشرق والغرب باعتبارها " طريق سريعة " ، فقد عرف الحرير في بلادنا منذ القرن الثالث قبل الميلاد وكان يرد اليها من الصين عبر " طريق الحرير " مرورا ببلاد الفرس والعراق، وكان يصّنع ويصبغ في المدن الفنيقية،  ويعاد تصديره الى سائر مدن حوض البحر المتوسط وخصوصا  روما. 
وعرفت تربية دودة الحرير في لبنان منذ القرن السابع للميلاد " نام على حرير "، مثل لبناني قديم كان يعني الطمأنينة وراحة البال في انتظار موسم الحرير المنقذ من العوز. 
وكان تجار لبنان يصّدرون الحرير الى الصين واليابان وأوروبا حتى اواخر العام 1960والمعروف ان الحرير المنتج في ضواحي بيروت كان الأجمل وكان يقال عنه " الحرير البلدي "  وكان يلقي تصديره الى الخارج رواجا كبيرا. مما جعل الحرير يشكل أكبر مصدر دخل للبنانيين. 
 إن أول مصرف فتح ابوابه في بيروت كان المصرف العثماني، ذلك لتمويل زراعة وإنتاج وتصنيع الحرير وتصديره الى الخارج. 
واذا كان أهالي برج حمود من أكثر الناس تعلقا بأرضهم ، فإن الغــاية التي حدت قديما ببعضهم أي قبل الحرب العالمية الاولى، الى ترك وطنهم والهرب من الاستبداد  هي السعي لكسب لقمة عيش كريم. 
وعلى رغم تكبدهم العذاب والمشقات للوصول الى بلاد الاغتراب وتركهم عائلاتهم وأحبائهم في الوطن، عمل هؤلاء في بلاد الاغتراب بكل جد واخلاص، بكل محبة وتضحية. قهروا أنفسهم  وعادوا الى الوطن ليشتروا قطعة أرض أو يبنوا منازل أو ينشئوا مشاريع ليعيلوا عائلاتهم  ويعيشوا  العيشة اللبنانية الكريمة ويؤمنوا لهم مستقبلا أفضل بعد تقديم العلم والمعرفة لابنائهم.
أما الذين لم يعودوا الى بلدتهم برج حمود وهم كثر فيعتبروا من اللبنانيين المهاجرين المتواجدين في كل اقطار المعمورة لهذا قيل ان الشمس لا تغيب عن اللبنانيين.
 
المرحلة الثانية : قدوم الارمن
 
بعد نهاية الحرب العالمية الاولى  سنة 1919 اصبح لبنان تحت الانتداب الفرنسي، وخلال سنة 1924 استقبل الجيش الفرنسي المهجرين الأرمن وأقام لهم المخيمات على قسم من أراض في برج حمود. ومنذ ان وطأت اقدامهم هذه الارض عقدوا العزم للتعاون مع الموارنة الموجودين  عليها إذ أنشأوا  نهضة زراعية وصناعية وتجارية وحرفية آلت الى رفع المستوى المعنوي للمنطقة. بنوا الكنائس والمدارس والمصانع واسهموا فعلا في عمرانها، الامر الذي كان السبب الرئيسي بطلب فصل منطقة بر ج حمود عن بلدية الجديدة – برج حمود ،  وإنشاء بلدية مستقلة في الربع الاخير  من عام 1952، فبعدما رحلت جيوش الاحتلال الفرنسي عن كيليكيا بعد الحرب العالمية الاولى، هرب الاخوان الارمن من شبح المجازر الجديدة وتراجعوا نحو البحر فيما كانوا يتعرضون لمطاردة القوات التركية بعض القادمين من منطقة موسى داغ اجلتهم السفن الفرنسية واضطروا للانتظار اسابيع في عرض البحر قبالة لبنــان. اسفرت مساعي البطريرك الماروني الياس الحويك لدى سلطات الانتداب الفرنسي على السماح لهم بالنزول الى هذه البلاد وايجاد ملجأ لهم فيها. غير أن معظم الاخوان الارمن وصلوا الى لبنان عبر صحراء دير الزور في سوريا وبلغ عددهم زهــاء 100 الف نسمة. وقد اقاموا على طول ساحل بيروت بين محلة الدورة في برج حمود ومحلة مار ميخايل في بيروت وعنجر في البقاع.
اذا ، كان العامل الأول والأهم استيطان برج حمود من قبل أبناء الطائفة الارمنية الذين نزحوا من جراء الظلم والمجازر الشهيرة ( الابادة الجماعية ) التي حصدت أكثر من مليوني شهيد أرمني قاصدة بلد الحرية خلال الاعوام  – 1915 – 1922 - 1939 -  فعندما أقبل الاخوان  الأرمن الى هذه المنطقة كانوا لاجئين لا حول لهم سوى اتكالهم على انفسهم  فاستقبلهم أهالي المنطقة  الاساسيين ( الموارنة ) ومدوا  لهم يد العون وأحاطوهم بالمحبة الصادقة. 
 مع بدء وصول الاخوان الارمن الى برج حمود في العام 1924 سكنت حوالي 25 عائلة في المنطقة المعروفة " بالتيرو " التي هي امتداد طبيعي لمنطقةالكرنتينا  بعد ان بنت لنفسها بيوتا صغيرة من الخشب. وفي العام نفسه ، وبفضل الهبة التي قدمها بوغوص نوبار باشا التي هي كناية عن سبع ليرات ذهبية عثمانية ، انشئ في حي " التيرو " أول مدرسة أرمنية في برج حمود وكانت من الخشب  والتنك وكان يتعلم فيها أبناء العائلات الفقيرة ويدفعون مقابل تعليمهم قسطا زهيدا. 
 وبعد ان التهم حريقا كبيرا  المنازل الخشبية التي انشأها الارمن لنفسهم في حي مار ميخايل في بيروت،  انتقل عدد كبير منهم الى حي " التيرو " في برج حمود وبذلك زاد عدد العائلات الارمنية القاطنة في الحي المذكور واصبحت تشكل مجموعة عددية لا بأس بها في أوائل الثلاثينات ، انشئت أول كنيسة في حي التيرو على اسم القديس غريغوريوس المنور  وكانت حيطانها وسقفها من الخشب والتنك. وفي الستينات ، ازيلت منشآت الكنيسة القديمة وبني مكانها كنيسة من الحجر سميت على اسم القديس وارطان.
 إن حي التيرو بقي على مدى اربعين سنة ملجأ للطبقة الفقيرة من العائلات الارمنية.
ونظرا الى أن برج حمود كانت في البدء كناية عن منطقة واسعة من البساتين والغابات تعود ملكيتها لافراد من ابناء برج حمود  الاساسيين، فقد استجاب هؤلاء لرغبة العديد من العائلات الارمنية لشراء أجزاء صغيرة من تلك العقـارات تتراوح مساحاتها بين اربعين ومئتي متر مربع  وراحت هذه العائلات الارمنية تبني لها مساكن صغيرة ومتوسطة. 
 والجدير ذكره ان ابناء كل بلدة أو مدينة مهجرة من كيليكيا قد تجمعوا  في نفس الحي في برج حمود واطلقوا عليه نفس تسمية بلدتهم أو مدينتهم في كيليكا.
 وعلى سبيل المثال نذكر ان القادمون من مدينة مرعش في كيليكا تمركزوا في حي وسط برج حمود لا بل هم شكلوا هذا الوسط عبر تجميع مساكنهم ومراكزهم التجارية والصناعية في الشوارع المعروفة اليوم بشارع اراكس وشارع مرعش وشارع ارمينيا ، وسموا هذا الحي "نور مرعش " أي " مرعش الجديدة " نسبة الى مدينتهم الام التي تهجروا منها. 
 وهذا المثل  ينطبق على القادمين من مدن أضنه وسيس وسنجق  وأمانوس واراكادز الخ...
ونشير ايضا الى ان كل حي من تلك الاحياء قد الف حينها جمعية اجتماعية مكونة من لجنة ادارية وامين سر وامين صندوق. وكانت كل لجنة تهتم برعاياها  وابناء بلدتها وتؤمن منازل للذين يتعذر عليهم ذلك وتؤمن ايضا المأكل والمشرب والاقساط المدرسية لابناء العائلات الفقيرة كما كانت تؤمن ايضا العمل لمن هم بحاجة اليه. 
 وفي حي مرعش ،  فإن اللجنة التي كانت تضم الخوري بولس عريس راحت تشتري اراض في الحي المذكور من مالكيها الاساسيين ثم فرزتها الى قطع صغيرة ووزعتها على العائلات مقابل مبالغ زهيدة ، فكانت كل عائلة تبني لها في البداية بيتا خشبيا سرعان ما كان يتحول الى بيتا من الباطون والحجارة فور توفر الامكانيات لذلك.
 
 اما كاهن حي مرعش الاب هاكوب ارسلانيان ، فقد اطلق حملة تبرع لانشاء كنيسة وسط هذا الحي فكانت العائلات الميسورة منها والفقيرة تقدم ما امكنها من نقود وحلي ومصاغ. وهذا الامر مكّن القادرين على إنشاء الكنيسة من المباشرة في عملية البناء التي شارك فيها كل سكان الحي من شباب ورجال ونساء واولاد وعجزة الذين كانوا يعملون جميعا كخلية نحل. وبتكاتفهم وتعاونهم   نجحوا في اتمام  بناء الكنيسة التي حملت إسم كنيسة " كاراسون مانوك "  أي كنيسة " الاربعين شهيد " وكان ذلك في العام 1930. 
 يذكر ان هذه الكنيسة هي أول كنيسة تبنى اساسا وفي الاصل من الحجارة اذ ان كل الكنائس الاخرى ككنيسة القديس وارطان في حي التيرو وكنيسة القديس سركيس في حي سيس وكنيسة السيدة في حي أضنة فقد انشئت أساسا من الخشب والتنك واعيد بناءها لاحقا بالحجارة  بعدما توفرت الاموال اللازمة لذلك. 
 اما الحياة الحزبية في برج حمود فقد بدأت مع قدوم الارمن اليها عبر حزب الطاشناق الذي هو الحزب الارمني الاساسي  في المنطقة. وقد أخذ هذا الحزب على عاتقه تنظيم الحياة السياسية والثقافية والرياضية والاجتماعية في المنطقة فأسس مجموعة من النوادي كان أولها نادي " نيكول دومان " تلاه نوادي " سار داراباد " و " ايشخان " و " ترو " و"  روبين " و  تهليريان " وغيرها كذلك قام الحزب برعاية نشاطات الجمعيات واهمها : 
-  جمعية الهومنتمن – فرع برج حمود -  وتتألف من قسمين ،  قسم رياضي يضم فريق لكرة القدم وفريق الدراجين وفريق لكرة السلة وفريق لالعاب القوى وغيرها، وقسم للكشافة والفرق الموسيقية الكشفية. 
-  جمعية صليب اعانة الارمن في لبنان الذي  تأسس مركزها الطبي الاول في الخمسينات داخل نادي سار داراباد  في حي مرعش.
إضافة الى حزب الطاشناق ، فإن حزب الهنشاق يرعى بدوره  نادي " ماسيس " وحزب الرمغافار 
يدعى نادي " بايكار ". 
كما يوجد جمعيات أخرى منها: 
-  مركز جينيشيان الاجتماعي الخيري  الذي تأسس عام 1955 والذي يرعى بنوع خاص شؤون المسنين والعجزة.
 
-  مركز قره كوزيان الطبي والاجتماعي و الخيري المخصص برعاية شؤون الاطفال وكان من اوائل المراكز الصحية الارمنية في برج حمود اذ أنه انشئ في الاربعينات.
بالنسبة للناحية العلمية ، فكانت خجولة في المرحلة الاولى اذ كان اهتمام الاهالي منصب على تأمين لقمة العيش. فالمدارس الاولى التي انشئت في برج حمود بين الاعوام 1930 و 1945 كانت مخصصة للصفوف الابتدائية فقط. اما التلامذة الذين كانوا يرغبون بمتابعة دراساتهم التكميلية والثانوية فكان عليهم التوجه الى المدارس الارمنية التي انشئت في بيروت والاشرفية كمدرسة  مارنيشان وجيماران و المدرسة الانجيلية. اشارة الى ان المدارس الارمنية السبعة الاولى في برج حمود كانت مدرسة كاراسون مانوك  ومدرسة أبكاريان ومدرسة لوسينيان ( حاليا مدرسة اكسور قصارجيان )  والمدرسة الارمنية الانجيلية في مرعش الجديدة (حاليا مدرسة شاميليان – تاتيكيان )  ومدرسة نوباريان في حي التيرو ومدرسة القديسة اغنيس ومدرسة مسروبيان للارمن الكاثوليك.
 الناحية الثقافية الارمنية بدأت في برج حمود عام 1940 مع تأسيس فرق مسرحية كفرقة بارونيان تلاه في العام 1952 تأسيس اول فرع لهماسكايين في برج حمود.
 أما رياضياً ، فإن فريق " فاسبورا كان " لكرة القدم يعتبر من أول الفرق الرياضية الارمنية في برج حمود وكان يضم فريقا للكبار وفريقا للناشئيين وقد احرز هذا الفريق نتائج مشرفة في الدورات التي كانت تجري في حينه ، ثم تشكل لاحقا فريق " جاكاتامارد ".
معلوم خلافا لسائر المهاجرين الذين يقصدون بلدا لجمع الثروة ، قدم الاخوان الارمن الى لبنان، 
وبرج حمود بالتحديد، في ظروف مأساوية للغاية وكان هذا البلد الملجأ الاخير للحفاظ على وجودهم. وقد راودهم الامل طويلا بالرجوع الى أرضهم الاصلية ( ارمينيا ) لذا ، نظموا شؤونهم محافظين في الوقت ذاته على لغتهم وثقافتهم ودينهم وتقاليدهم. واذ كان الارمن قد عاشوا  منطوين بعض الشيء على ذواتهم ، فمرد ذلك يعود للحفاظ على هويتهم ، وليس بأي حال لرفض الاندماج مع محيطهم كما يميل البعض للاعتقاد. بات الاخوان الارمن الان متجذرين فعلا في لبنان.
 
  أذا ، ان لبنان استقبل المهجرين الارمن  وهم بدورهم ردوا له الجميل بعطائهم الناشط الذي يتميزون به. وصلوا  الليل بالنهار ، فما هي الا بضع سنوات حتى كانت بيوت  الخشب تستبدل بالإسمنت ،  وبرج حمود تعمر ويشهق فيها البناء. فنشطت التجارة  في المنطقة حتى ظهرت الدعوة التي تحث الأرمن للعودة الى وطنهم الأم ،  وذلك خلال عــامي 1946 – 1947.  عندهــا باع بعض من الاخوان الأرمن أراضيهم وممتلكاتهم بأسعار  منخفضة الى بعض الاخوان من الطائفة الشيعية، فعرفت المنطقة نزوحـا ثانيا اليها، واصبحت تعتبر من أكثر التجمعات السكانية كثافة في لبنان ، إذ تعد أكثر من 000 150 نسمة. 
 ان الطوائف الارمنية في لبنان هي من بين الطوائف الاكثر نشاطا في البلاد ، فقد ساهمت بنهضته الثقافية والاقتصادية والسياسية. شعب نذر نفسه للعمل والفن والعلم والمعرفة وقد نجحت تلك الطوائف بفضل حكمة القيمين عليها خلال خمسين عاما بفضل عملها المتواصل وتصميمها على الاندماج وتحسين ظروف حياتها، على احتلال موقع لا يستهان به في النظام الاقتصادي اللبناني،  لانهم عرفوا كيف يوفقون بين مصالحهم الشخصية ومصلحة لبنان.
 ان الشعب العربي واللبناني بالتحديد، شعب معذب كالشعب الأرمني. وبالفعل فقد أدركت السلطات العثمانية مغبة الاتفاقات العربية – الارمنية مع الدول الاوروبية المعادية لها فأقدمت على قتل القادة والزعماء الأرمن اعتبارا من 24 نيسان 1915 ثم اتبعتها بعد اسبوعين وبالتحديد بتاريخ 6 ايار 1915 بنصب المشانق للزعماء العرب في سوريا ولبنــان.
 نذكر انه في البساتين الواقعة في حي مرعش " شارع أراكس " كان المعمرون من الاخوان الارمن الناجون من المجازر يستظلون الاشجار عند مغرب كل يوم حيث كانوا يجدون الهدوء والطمأنينة ليتذكروا المآسي والبؤس وتلك الايام المشؤومة الغابرة.
 
  المرحلة الثالثة : قدوم الشيعة
 
قلنا أنه، بناء على نداء من المسؤولين في دولة ارمينيا سنة 1948 عاد قسم من الارمن الى ارمينيا، السبب الذي أعطى مجالا الى بعض اللبنانيين من الطائفة الشيعية للانتقال من مناطق نائية في الجنوب والبقاع الى منطقة برج حمود. وبمساعدة تجار الاراضي نذكر منهم السيدان سمعان علوان ونسيم أظن كان يزداد عدد ابناء هذه الطائفة سنة فسنة نسبة الى موقع برج حمود القريب من العاصمة ، وتوفيرا لليد العاملة ، وبالتالي بسبب الالفة والمحبة وحسن الجوار التي كانوا يحظون بها من ابناء الطائفتين الموجودتين قبلهم وبغية تنظيم حضورهم في برج حمود المنطوي على المسالمة والتسليم بالعناية الاهية حضر من بلدة عرب صاليم الجنوبية رجل دين معروف بروح التقوى والانسانية والحنكة والذكاء هو سماحة الشيخ رضى فرحات -  رحمه الله -  وانه تجسيدا للتاريخ نذكر على سبيل المثال لا الحصر بعض النشاطات التي قام بها هذا الانسان الكبير والتي كانت واقعا مهما للتعايش بسلام مع سائر الطوائف في المنطقة :
-  شيد جامعا سنة 1950 في منطقة النبعة. 
-  شيد حسينية وبناءا ضخما لابتدائية مجانية للفقراء وتكميلية بأقساط زهيدة جدا. 
-  شيد بناءا  لدار الايتام يستوعب مئة وعشرة ايتام وكان على أهبة التوقيع مع مصلحة الانعاش  الاجتماعي قبل ان يدركه الاجل والعمل جار الان لاعادة تأهيله.
-  سعى سنة 1959 الى تحويل المدرسة الرسمية الوحيدة التي كانت موجودة حينها في برج حمود الى تكميلية باللغة  الفرنسية حيث كان أول مدير لها الاستاذ خليل أبو حمزة. 
-  اقام افضل العلاقات مع رجال الدين والدنيا في منطقة بر ج حمود وضواحيها.
-  اقام حلفا ثلاثيا مع المرحوم الخوري بولس عريس أول رئيس لبلدية برج حمود ومع الخوري يوسف صدقة كاهن رعية مار يوسف حارة صادر آنذاك.
-  نسج مع اعوانه الاقربين أفضل علاقات حسن الجوار والمعايدات المتبادلة أيام الاعياد المباركة والمشاركة في الافراح والاتراح مع أهالي حارة صادر ، طراد ، مرعش ، سيس ، الغيلان ، مار ضوميط.
 
 ثلاثة رجال دين يؤمنون بالله عز وجل إيمانا قويا من ثلاث طوائف مختلفة ، مع أعوانهم ، كونوا حلفا قويا مبنيا على احترام الانسان والمعتقد ومحبة الوطن حيث كان رادعا ، لا للنزاعات والخصومات فحسب ، بل لابسط الخلافات وسوء التفاهم.
 وقد تمكن هذا الحلف من تحييد  المعارك والعنف عن برج حمود إبان ثورة 1958.
وتجدر الاشارة  بأن أحد زعماء المسلمين ارسل في تلك الايام – ايام الثورة – اسلحة حربية الى سماحة الشيخ رضى فرحات فما كان من هذا الاخير الا ان رفض هذه " الهدية " الدموية رفضا قاطعا قائلا للمرسل : " نحن أبناء برج حمود نعيش كعائلة واحدة وانني لا اوافق على الاقتال والعنف بين اللبنانيين لاننا لا نحصد من خلالهما الا الحقد والدمار لذلك لسنا بحاجة الى اي قطعة سلاح لاننا قد تعاهدنا في هذه المنطقة بأن سلاحنا الوحيد هو المحبة والتسامح "، فعاد المرسل على اعقابه خائبا.
 نعم عاشت برج حمود بكافة طوائفها شعارها المحبة والتعايش ، وقد اختلط في مدارسها التلامذة المسيحيون والمسلمون وبموافقة سماحة الشيخ رضى فرحات تجند العديد من الرهبان والراهبات لتدريس التعليم المسيحي للتلامذة المسيحيين الذين يتعلمون في مدارس الطائفة الشيعية الكريمة. هذا غيض من فيض عن فضائل هذا الشيخ الوقور.
 الامام المغيب السيد موسى الصدر :  يعتبر الامام السيد موسى الصدر من كبار الأئمة المجددين الذين انخرطوا في العمل من أجل الانسان وخيره ومن أجل إعمار الارض. فلم يكتف بالتنظيرات والكلام المجرد بل نزل الى ارض الواقع وخاض في مشاكل الناس وسعى الى ترجمة الرسالة الدينية الى الحياة. لذلك جاهد الامام من أجل الفقراء والمحرومين والمستضعفين ومن أجل احقاق واعادة الكرامة الى الانسان أشرف مخلوقات الله.  لكن هذا لم يمنع الامام من أن يمد الفكر الاسلامي بالكثير من الاجتهادات الكلامية والفقهية.  فقد كان من أوائل الذين ساهموا في إطلاق الحوار الاسلامي المسيحي وإطلاق صيغة العيش المشترك في لبنان وخصوصا في برج حمود.
 وفاة الشيخ رضى فرحات : توفي المرحوم سماحة الشيخ رضى فرحات في 12 شباط 966 وتحول مأتمه الى مظاهرة وطنية شارك فيه المسيحييون من كافة طوائفهم اخوانهم الشيعة في وداع الراحل الكبير. حمله على الاكف أبناء رعايا مار يوسف حارة صادر ، طراد ، سيس  ، مرعش ، الغيلان ، مار ضوميط ، كما شارك في المأتم الكهنة والراهبات والاخويات والجمعيات.
 
 بعد و فاة المرحوم الشيخ رضى فرحات ، تسلم مشعل رعاية الطائفة الشيعية نجله الشيخ محمود فرحات الذي سار على خطى والده وتابع مسيرة التعايش والاحترام المتبادل مع الاعتدال والحوار حتى عام 1975 حين فرضت الحرب ونتيجة للضغط السائد آنذاك والاحتقان الطائفي، تألفت لجنة قوامها بعض الاشخاص النافذين والمخلصين من أبناء المنطقة من كافة الطوائف مهمتها التنسيق والمحافظة على ترسيخ الثوابت القائمة وأهمها : 
العلاقات والتواصل والحوار والسلم الاهلي. وكان لهذه  اللجنة الدور الفعال لاطلاق سراح المخطوفين من مسلمين ومسيحيين ،  وقد دام هذا التدبير لغاية السادس من شهر آب 1976 حيث قرر ابناء الطائفة الشيعية النزوح عن منطقة برج حمود الى مناطق اختاروها بحريتهم ،  وقد تم هذا النزوح بالتراضي والتوافق ،  وكان خط سيرهم عبر طريق سيس ، طراد ،  حارة صادر ، مار يوسف ، الكرنتينا ،  الصيفي ،  المنطقة الغربية وانتهى هذا الانتقال الطوعي دون ان يصاب أي فرد منهم بأذى. 
وبعد مرور عشرين عاما على هذه الحرب العبثية وهذا الابعاد البشري الظالم ، ومع حلول عام 1996 ابتدأت عودة بعض الاخوان من الطائفة الشيعية الكريمة الى منطقة النبعة بر ج حمود وعادت معها مسيرة التلاقي والتواصل والحوار.
 وبحلول شهر رمضان المبارك في كانون الثاني سنة 2000 ،  وتطويرا للتلاقي والتعايش،  وامتدادا الى ما كانت عليه المنطقة في الاعوام السالفة ، وبأيعاز من كاهن رعية مار يوسف حارة صادر الخوري سمير نصار ومن وحي الارشاد الرسولي تحت شعار" لبنان أكثر من وطن ، انه رسالة " دعت عمدة جميعة القديس  يوسف الخيرية في برج حمود حارة صادر الى افطار في مركز الجمعية الكائن في منطقة رعية حارة صادر وكان على رأس المدعويين الشيخ محمود فرحـات وعدد من ممثلي عائلات واحزاب الطائفة الشيعية وبحضور رئيس البلدية السيد انترانيك مصرليان وبعض اعضاء المجلس البلدي.
وكان لهذا الافطار التاريخي الذي جمع كل عائلات برج حمود الروحية صدى جميلا حيث تناولته وسائل الاعلام كافة . وقد تكررت دعوة الافطار من قبل عمدة جميعة القديس يوسف الخيرية في السنة التالية 2001 مع الاشارة الى أن دعوات الافطار هذه ستستمر سنويا طالما أن لبنان مستمر بإذن الله.
 
إن كافة الطوائف المسيحية وعلى رأسها رئيس البلدية وبعض الكهنة تشارك في محافل عزاء عاشوراء في جامع فرحات سنويا بناء على دعوة من سماحة الشيخ محمود فرحات ولغاية تاريخه لا تزال الزيارات ومبادرات التلاقي قائمة بين العائلات الروحية والزمنية سيما وبنوع خاص في المناسبات الدينية والوطنية وهي ستستمر في المستقبل دون أي شك. 
برج حمود مدينة التلاقي والتعايش والمحبة ، يتفاعل فيها أبناء الطائفة الارمنية الخلاقون مع المسلمين والمسيحيين ليبنوا معا مستقبل العدالة والمساواة والنهضة والنمو لهذه المنطقة التي تحمل الوعود الجميلة والمستقبل الزاهر للاجيال الصاعدة.